كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعتزلة يحيلون الفعل غير المشتمل على غرض وغاية لاستلزامه اللغو والجزاف المنفي عنه تعالى فيفسرون عدم كونه تعالى مسؤولا في فعله بأنه حكيم والحكيم هو الذي يعطي كل ذي حق حقه فلا يفعل قبيحا ولا لغوا ولا جزافا، والذي يسأل عن فعله هو من يمكن في حقه إتيان القبيح واللغو والجزاف فهو تعالى غير مسؤول عما يفعل وهم يسألون.
والبحث طويل الذيل وقد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين ومن وافقهم من غيرهم قرونا متمادية، ولا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنا نشير إلى حقيقة أخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحق في المقام.
لا ريب أن لنا علوما وتصديقات نركن إليها، ولا ريب أنها على قسمين: القسم الأول: العلوم والتصديقات التي لا مساس لها طبعا بأعمالنا وإنما هي علوم تصديقية تكشف عن الواقع وتطابق الخارج سواء كنا موجودين عاملين أعمالنا الحيوية الفردية أو الاجتماعية أم لا كقولنا: الاربعة زوج، والواحد نصف الاثنين، والعالم موجود، وإن هناك أرضا وشمسا وقمرا إلى غير ذلك، وهي إما بديهية لا يدخلها شك، وإما نظرية تنتهي إلى البديهيات وتتبين بها.
والقسم الثاني: العلوم العملية والتصديقات الوضعية الاعتبارية التي نضعها للعمل في ظرف حياتنا، والاستناد إليها في مستوى الاجتماع الإنساني فنستند إليها في إرادتنا ونعلل بها أفعالنا الاختيارية، وليست مما يطابق الخارج بالذات كالقسم الأول وإن كنا نوقعها على الخارج إيقاعا بحسب الوضع والاعتبار لكن ذلك إنما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة والواقعية كالاحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين والسنن والشؤون الاعتبارية كالولاية والرئاسة والسلطنة والملك وغيرها فإن الرئاسة التي نعتبرها لزيد مثلا في قولنا زيد رئيس وصف اعتباري، وليس في الخارج بحذائه شيء غير زيد الإنسان وليس كوصف الطول أو السواد الذي نعتبرهما لزيد في قولنا زيد طويل القامة، أسود البشرة وإنما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كونا مجتمعا من عدة أفراد لغرض من الاغراض الحيوية وسلمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلا موضعه الذي يليق به ثم يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنه رأس لينحفظ بذلك المقام الذي نصبناه فيه وينتفع بآثاره وفوائده.
فالاعتقاد بأن زيدا رأس ورئيس إنما هو في الوهم لا يتعداه إلى الخارج غير أنا نعتبره معنى خارجيا لمصلحة الاجتماع، وعلى هذا القياس كل معنى دائر في المجتمع الإنساني معتبر في الحياة البشرية متعلق بالاعمال الإنسانية فإنها جميعا مما وضعه الإنسان وقلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدى وهمه.
فهذان قسمان من العلوم، والفرق بين القسمين: أن القسم الأول مأخوذ من نفس الخارج يطابقه حقيقة، وهو معنى كونه صدقا ويطابقه الخارج وهو معنى كونه حقا فالذي في الذهن هو بعينه الذي في الخارج وبالعكس: وأما القسم الثاني فإن موطنه هو الذهن من غير أن ينطبق على خارجه إلا أنا لمصلحة من المصالح الحيوية نعتبره ونتوهمه خارجيا منطبقا عليه دعوى وإن لم ينطبق حقيقتة.
فكون زيد رئيسا لغرض الاجتماع ككونه أسدا التشبيه والاستعاره لغرض التخيل الشعري، وتوصيفنا في مجتمعنا زيدا بأنه رأس في الخارج كتوصيف الشاعر زيدا بأنه أسد خارجي، وعلى هذا القياس جميع المعاني الاعتباريه من تصور أو تصديق.
وهذه المعاني الاعتبارية وإن كانت من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطباق إلا أنها معتمدة على الخارج من جهة أخرى وذلك أن نقص الإنسان مثلا وحاجته إلى كماله الوجودي ونيله غاية النوع الإنساني هو الذي اضطره إلى اعتباره هذه المعاني تصورا وتصديقا فإبقاء الوجود والمقاصد الحقيقية المادية أو الروحية التي يقصدها الإنسان ويبتغيها في حياته هي التي توجب له إن يعتبر هذه المعاني ثم يبني عليها أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة.
ولذلك تختلف هذه الأحكام بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعية فهناك أعمال وأمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبية مثلا وهي بعينها مستقبحة في المجتمعات الاستوائية، وكذلك الاختلافات الموجودة بين الشرقيين والغربيين وبين الحاضرين والبادين، وربما يحسن عند العامة من أهل مجتمع واحد ما يقبح عند الخاصة، وكذلك اختلاف النظر بين الغني والفقير، وبين المولى والعبد، وبين الرئيس والمرؤوس، وبين الكبير والصغير، وبين الرجل والمرأة.
نعم هناك أمور اعتبارية وأحكام وضعية لا تختلف فيها المجتمعات وهي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه، وحسن العدل، وقبح الظلم، فقد تحصل أن للقسم الثاني من علومنا أيضا اعتمادا على الخارج وإن كان غير منطبق عليه مستقيما انطباق القسم الأول.
إذا عرفت ذلك علمت أن علومنا وأحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإن الخارج الذي نماسه فننتزع ونأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع والايجاد وهو فعله، وعلى هذا فيعود معنى قولنا مثلا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة إلى أن الله سبحانه يفعل دائما الواحد والاثنين على هذه النسبة الضرورية، وعلى هذا القياس، ومعنى قولنا: زيد رئيس يجب احترامه إن الله سبحانه أوجد الإنسان إيجادا بعثه إلى هذه الدعوى والمزعمة ثم إلى العمل على طبقه، وعلى هذا القياس كل ذلك على ما يليق بساحة قدسه عز شأنه.
وإذا علمت هذا دريت أن جميع ما بأيدينا من الأحكام العقلية سواء في ذلك العقل النظري الحاكم بالضرورة والامكان، والعقل العملي الحاكم بالحسن والقبح المعتمد على المصالح والمفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه.
فمن عظيم الجرم أن نحكم العقل عليه تعالى فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد والتقييد، أو أن نقنن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا وحرمة فعل كذا وأنه يحسن منه كذا ويقبح منه كذا على ما يراه قوم فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكما بمحدوديته والحد مساوق للمعلولية فإن الحد غير المحدود والشئ لا يحد نفسه بالضرورة، وفي تحكيم العقل العملي عليه جعله ناقصا مستقبلا تحكم عليه القوانين والسنن الاعتبارية التي هي في الحقيقة دعاو وهمية كما عرفت في الإنسان فافهم ذلك.
ومن عظيم الجرم أيضا أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين والتشريع أعني أحكام العقل النظرية والعملية.
أما في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلية النظرية من مشاهدة أفعاله، ونسلك بها إلى ثبات وجوده حتى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضرورية معتلا بأن العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته ودرجات صفاته، وأنه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعلية، والفعل والترك بالنسبة إليه على السوية وأنه لا غرض له في فعله ولا غاية، وأن الخير والشر يستندان إليه جميعا، ولو أبطلنا الأحكام العقلية في تشخيص خصوصيات أفعاله وسننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف عن أصل وجوده، وأشكل من ذلك أنا نفينا بذلك مطابقة هذه الأحكام والقوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه، والمنتزعة للمنتزع منه وهو عين السفسطة التي فيها بطلان العلم والخروج عن الفطرة الإنسانية إذ لو خالف شيء من أفعاله تعالى أو نعوته هذه الأحكام العقلية كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقلي على الخارج المنتزع عنه- وهو فعله- ولو جاز الشك في صحة شيء من هذه الأحكام التي نجدها ضرورية كان الجميع مما يجوز فيه ذلك فينتفي العلم، وهو السفسطة.
وأما في مرحلة العمل فليتذكر أن هذه الأحكام العملية والامور الاعتبارية دعاو اعتقادية ومخترعات ذهنية وضعها الإنسان ليتوسل بها إلى مقاصده الكمالية وسعادة الحياة فما كان من الأعمال مطابقا لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثم أمر بها وندب إليها، وما كان منها على خلاف ذلك وصفها بالقبح والمساءة ثم نهى عنها وحذر منها- وحسن الفعل وقبحه موافقة لغرض الحياة وعدمها- والغايات التي تضطر الإنسان إلى جعل هذه الاوامر والنواهي وتقنين هذه الأحكام واعتبار الحسن والقبح في الأفعال هي المصالح المقتضية للجعل ففرض حكم تشريعي ولا حسن في العمل به ولا مصلحة تقتضيه كيفما فرض فرض متطارد الاطراف لا محصل له.
والذي شرعه الله سبحانه من الأحكام والشرائع متحد سنخا مع ما نشرعه فيما بيننا أنفسنا من الأحكام فوجوبه وحرمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده مثلا من سنخ ما عندنا من الوجوب والحرمة والأمر والنهي والوعد والوعيد لا شك في ذلك، وهي معان اعتبارية وعناوين ادعائيد غير أن ساحته تعالى منزهة من أن تقوم به الدعوى التي هي من خطاء الذهن فهذه الدعاوى منه تعالى قائمة بظرف الاجتماع كالترجي والتمني منه تعالى القائمين بمورد المخاطبة لكن الأحكام المشرعد منه تعالى كالاحكام المشرعة منا متعلقة بالانسان الاجتماعي السالك بها من النقص إلى الكمال، والمتوسل بتطبيق العمل بها إلى سعادة الحياة الإنسانية فثبت أن لفعله تعالى التشريعي مصلحة وغرضا تشريعيا، ولما أمر خبه أو نهى عنه حسنا وقبحا ثابتين بثبوت المصالح والمفاسد.
فقول القائل: إن أفعاله التشريعية لا تعلل بالاغراض كما لو قال قائل: إن ما مهده من الطريق لا غاية له، ومن الضروري أن الطريق إنما يكون طريقا بغايته، والوسط إنما يكون وسطا بطرفه، وقول القائل: إنما الحسن ما أمر به الله والقبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا، ولو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل: أن الله لو سلك بالانسان نحو الهلاك والفناء كان فيه حياته السعيدة، ولو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة.
فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين: أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه ويقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم والقدرة والحياة، واستناد الموجودات إليه وسائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة والمغفرة والرزق والأنعام والهداية وغير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.
غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية وهو تعالى أعظم من أن يحيط به حد، والمفاهيم لا تخلو عنه لأن كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه وهذا لا يلائم الإطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشئ من النعوت السلبية تنزيها وهو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف وأعظم من أن يحيط به تقييد وتحديد فمجموع التشبيه والتنزيه يقربنا إلى حقيقة الأمر، وقد تقدم في ذيله قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} المائدة: 73، من غرر خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان ويبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت.
هذا كله في العقل النظري.
وأما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع واعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الإنسان مثلا وهو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الإنسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالانسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى، ولتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الإنسان دونه كما تقدم.
وإذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الأحكام ويطلب الحصول على الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فيها لكن لا لأن يحكم عليه فيأمره وينهاه ويوجب ويحرم عليه كما يفعل ذلك بالانسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو حتى يتوجه إليه حكم موصل إليه بخلاف الإنسان بل لأنه تعالى شرع الشرائع وسن السنن ثم عاملنا معاملة العزيز المقتدر الذي نقوم له بالعبودية وترجع إليه حياتنا ومماتنا ورزقنا وتدبير أمورنا ودساتير أعمالنا وحساب أفعالنا والجزاء على حسناتنا وسيئاتنا فلا يوجه إلينا حكما إلا بحجة، ولا يقبل منا معذرة إلا بحجة، ولا يجزينا جزاء إلا بحجة كما قال: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} النساء: 165، وقال: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينه} الانفال: 42 إلى غير ذلك من احتجاجاته يوم القيامة على الانس والجن.